تنبيه؛ اللي مقرأش المقدمة يقرأها عشان هي مشهد مهم
#لطيفها_عاشق
#الطيف_الأول
جروح غائرة وطعنات من خناجر مسمومة يهبها القدر لأفئدتنا فتشعرنا بأننا فقدنا الحياة لنجد الفؤاد يخفق بشدة عندما يلتقي بأحدهم فنعلم أنه لم يستسلم لتلك الأسقام بل انتظر مجيء مالكه ليعلن رايته ويخبرنا أنه مازال على قيد الحياة.
*قبل الأحداث السابقة بثلاثة أشهر.
ابتسامة قصيرة أفصحت شفتاه عنها بعدما استمع إلى إجابتها عن سؤاله تطرب أذنيه، دنياه.. عالمه الصغير، تلك التي أيفعت على يداه منذ صغرها ثم لفظها خارج حياته بعدما استشعر نضجها، يعلم أن ابتعاده هذا حطَّم جدر قلبها التي سيبذل كل طاقته في إعادة ترميمها، ولكن أليس الله يكافيء من ترك شيئًا لأجله بعوضٍ تبكي له الأعين؟ هو ابتعد ليعفَّ قلبيهما حتى يحين اللقاء، ويعود يسترضيها بعقد قرانٍ؛ ليقبِّل جل جروحها ويعيدها لقلبه أكثر مما كانت، وكم اقترب موعد اللقاء!! وعد قلبه بعقدٍ تقر به الأعين بعدما تنتهي من مرحلتها الثانوية وها هي السنة الأخيرة أوشكت على الانتهاء ولم يقف أمام رغبته شيء، خمسة أشهر، فقط خمسة أشهر وسيعقد عليها ثم يدلف بعدها بدوامة إقناع عقله لتأجيل الزفاف حتى تنتهي من سنوات دراستها الجامعية.
فاق من شروده على صوت الطالبة الأخرى التي رددت إجابتها عن السؤال الذي قرأته حين شروده وتنتظر منه تقييم ما أجابت، حمحم بهدوء وعيناه مازالت متشبثة بعهدها مع تلك النقطة الخاوية بألا تفارقها وتنتقل إلى إحدى الفتيات فينكث عهده الأعظم مع خالقه بألا يسمح لعينيه أن تميل وتمتطي دابة ستصل به إلى لظى، دقائق طويلة قد مرت قبل أن ينتهي من توضيح بعض النقاط ويأذن لهم بالذهاب، استدار يجمع أدواته بإرهاق بعدما ألقى نظرة إلى ساعته متنهدًا براحة؛ فقد انتهت جميع زيارات الطلاب له هذا اليوم وسيعود ليهنأ بالراحة بعد يوم شاق استنزف كل طاقته.
تعالت ضربات قلبه وهو يستشعر طيفها يقترب منه، أراد أن يسيطر على أوصاله ويقنع ذاته بأن إحدى أصدقائها هي التي تقترب منه، ولكن كيف عن قلبه الذي يقسم دون تردد بأن ساكنته هي التي تقترب وستأذن لأضلعه بأن تبدد اشتياقه لروح فؤاده التي تسكن بين أضلعها هي، عقد حاجبيه بتساؤل بعدما توقفت أمامه ابنة عمته" ريهام" التي علم هويتها من صوتها بينما هي تقف على استحياء بقرب منهما،
_ يا مستر البنتين التوأم اللي جهم معانا جداد والدهم متوفي
_تمام هعرف محمد
صاح بجملته قبل أن يوميء إليها بإيجاب فوجدها تسحبها من يدها وتذهب بها بهدوء كما جاءت غير مبالية بذاك الذي تركته قبل أن تدع له الفرصة بأن يبدد اشتياقه بالطريقة التي تجب، جاءت برفقة صديقتها فقد لتخبره بما كان قد طلب منهما أن تخبراه كي لا يتقاضى مقابل ما يعلمهم، ولكن ماذا كان يريد منها أن تفعل؟ أليس هو من ابتعد وأجبرها معنفًا بأنها ما عادت تلك الطفلة التي يحق لها الالتصاق به أينما ذهب!!..فأحيانًا ما يتشبث الفؤاد بأحد الأشخاص بل ويتعلق بثيابهم باكيًا من وقع الكلمات التي تصدرها الشفاة بقساوة تصفعه ويستنتج منها أنَّ شخصه الذي يتعلق به سوف يرحل دون أن يبالي بثيابه التي مزقها الفؤاد ارتعابًا من ابتعاده.
-قلت لك روحي لواحدك يا ريهام، ليه دايما تحرجيني معاه.
صاحت "دنيا" بنزق وعيناها لا تتهاون في ذرف حممها الغاضبة تجاه صديقتها، عهدت على نفسها بأن تلملم أشلاء كرامتها التي بعثرها لها قبل سنوات وها هي "ريهام" تدفعها لأن تعرّض كرامتها التي مازال أثر الالتئام واضحًا عليها للخطر، يراودها الحنين بكل مرة تقع أعينها عليه، تشتاق لأخيها الأكبر الذي كان دائمًا مخبأ أسرارها، ولكن هذا الذي يتشح بعباءة الالتزام قد حرمها منه بحجة الحرام، حسنًا هي تعلم أنه على حق بأن يضع الحدود بينهما ولكن أهو على حق بأن يلفظها مرة واحدة بعدما كان أقرب إليها من نفسها؟!
- أحرجك ليه يا دنيا؟ دا ابن عمك ، وبعدين انتو مكبرين الموضوع أوي..
تنهيدة عميقة قد أصدرتها شفتيها وعيناها شاردة بذكرى ذلك اليوم فزفرت الأخرى بقلة حيلة تردف بدفاعٍ عنه
- تمام.. هو غلط وقتها بس دا عبدالرحمن يا دنيا، بعد كل اللي كان بيعمله عشانك مش لاقية له حاجة واحدة بس تعذريه عشانها؟
هزت رأسها بالنفي وهي تقول
- عشان هو عبدالرحمن عمري ما هصفى له ولا هرجع زي ما كنت..
اعوجَّ ثغر الأخرى بعدم اقتناع ثم جذبتها من يدها وخطت معها الخطوة الأولى لعبور ذاك الممر العريض الممتد فوق المياة لتحصل بها إلى الجهة الأخرى التي ينتصب منزلها على جانبها، وقفت دنيا في نهاية الممر تنظر إليها بامتنان قبل أن تودعها الأخرى وتعود من فوق الممر مرة ثانية ناحية بيتها، ريهام ليست بحاجة لمرور هذا معها فمنزلها يلتصق بالمركز الذي تقضين فيه معظم دروسهن ولكن لعلمها بخوفها من المرور من فوق الممر رغم اتساعه الذي يسمح أحيانًا للسيارات الصغيرة بأن تعبر عليه لم تتركها ولو مرة واحدة بأن تعبره وحدها.
بعد دقائق قليلة ارتمت ببدنها فوق فراشها بعدما انقضت من آداء صلاتها تسترجع اضطرابات قلبها في تلك اللحظات القليلة التي تمضيها تحت قيادته، تخشى من قلبها الذي يود بكل مرة يراه بها أن يقفز من بدنها ويعنفه على وحدتها التي تشعر بها، كان رفيقها وشقيقها الأكبر الذي تراه سندًا لها بل أحيانًا ما كانت تشعر به كوالدتها التي فقدتها قبل أن ترها ولو مرة واحدة، فمن يصدق أنها لم تخجل منه حينما طرق البلوغ باب بدنها وأشرف عليها من نافذتها بعادته التي تراود الفتيات كل شهر فذهبت إليه من فزعها تخبره عما أحلَّ بها!!
اعتقدت أنه سيطمئنها ويجعل ما تخشاه على ما يرام كما يفعل دائمًا ولكن ما فعله حقًا لن تنساه طيلة حياتها، وقوفه كالمصعوق أمامها بل مناداته لوالدته كي تساعدها وإعراضه عنها جعلها تشعر بأنها قد ارتكبت خطأً يعاقبها عليه، لن تنسى كيف ذهبت إليه ليلتها تطلب منه العفو دون أن تعلم بأي شيء أخطأت ففاجأها بدفعها بعيدًا عنه وجذب يده التي كانت تعانقها بترجي ثم صاح يعنفها ويوبخها عن اقترابها منه مهرتلًا ببعض الكلمات التي تنقر كالمسامير في عقلها من ضرورة ابتعادهم وعدم ملامستها له بأي طريقة ومنعها من دلوف غرفته بوجوده ومثل هذه الأشياء التي تنخر قلبها، تنهدت بقوة وهي تتذكر كيف لم تقتنع بكلماته وهرولت إليه تعانقه وتترجاه بأن يتخلى عما يهزي به فدفعها عنه وطردها من غرفته آمرًا والدته أمامها بألا تدعها تنفرد به مرة ثانية
فاقت من شرودها بتلك الذكرى التي تصفع قلبها على صوت هاتفها معلنًا عن إحدى الرسائل، وجدت رقمًا غير مسجلًا قد أرسل لها على تطبيق "الواتساب" ففتحت الرسائل بفضول وسرعان ما صفعت جبينها توبخ عقلها لنسيانه مندوب الشحن الذي كان قد أخبرها أمس بأنه سيصل إليها بالخمسة كتب التي كانت قد طلبتهم منذ أسبوع، أسرعت أناملها تهرول على لوحة المفاتيح تدون كلمات تخبره بها عن انتظارها له ثم نهضت ترتدي "إسدال الصلاة" المعلق خلف باب غرفتها لترافق زوجات أعمامها قبل أن تبدأ حفلة والدها الليلية دون أن تلوذ بالفرار منه!!
______________
شهقات مقهورة ونشيجٌ باكٍ هو ما يصدر عنها، سحبت أحد المناديل الورقية من عبوتها تمرره على أطراف أعينها خشية من أن تصيب دموعها وريقات المصحف المفتوح على قدميها، أغمضت أعينها تعتصرهما بألف ثم رفعت رأسها تنظر إلى السماء قبل أن تهمس بصوتٍ بُح من أثر البكاء
-يارب... أنت أعلم مني بما يحمله قلبي، اللهم كما حفظت قلبه عن حبي انزع محبتي له من قلبي ولا تجعل للحب سبيلًا إلى قلبي إلا لمن يرتضيني له حلالًا وسندًا
أجفلت على صوت والدتها الحاني التي همست متحسرة
- بردوا يا رقية... لسة بتعيطي عليه يا بنتي؟! يا وجع قلبي
بارتباكٍ رفعت كفها تحاول أن تمحي أي أثر للبكاء من عينيها، ثم همست بصوت مبحوح
- مش بعيط يا أمي.
هزت والدتها رأسها بقلة حيلة ثم أردفت متجاهلة حديثها
- ربنا يسامحهم اللي علقوا قلبك بيه، ربنا يسامحهم على وجع قلوبنا اللي مبقاش بيفارقنا دا، انسيه يا حبيبتي... انسيه واتجوزي وعيشي حياتك، أنتِ بقا عندك تسعة وعشرين سنة يا بنتي.
تنهدت بقوة ضائقة من قلبها الذي يأبى أن يلتفت إلى ما تتحدث به والدتها، كيف لها أن تنسى؟ والله لو أخبروها بأن هناك دواء للنسيان في أقصى بقاع الأرض لهرولت إليه دون أن تعبأ بشيء، كيف لها أن تنسى وهي التي ترعرعت على جملة ( أن رقية لأحمد) جملة ظلت عماتها وجميع عائلتها يرددونها منذ أن لفظها رحم والدتها وحتى فرَّ أحمد من مقولتهم هاربًا إلى إحدى الدول الأوروبية، اثني عشر عامًا وتبعهم ثلاث وعشرون يومًا قد مضوا وهو مازال غارقًا بين أحضان الأغراب غير عالمًا بتلك التي تعلق فؤادها به منذ أن كانت طفولتها في مهدها حتى باتت امرأة ناضجة بقلب عجوزٍ أهلكتها نوائب الدهر، حاولت عشرات المرات بأن تنساه وتداوى قلبها بزواج لتحظى بقلبٍ صافٍ تحت مظلة الحلال ولكن بكل رؤية شرعية كانت تبغض من يأتيها وتنتابها حالة من الحزن تسكن روحها حتى يعرض المتقدم للزواج منها عنها ويصرح برفضه لها، نعم رفضها الكثير من الشباب وجميعهم صرحوا برفضهم بعد جلوسهم معها واطلاعهم على الجانب الذي أضناه الحب بقلبها، ومن يصدق أن من تسمى بزينة بنات الحي رفضها فوق العشرون رجلًا!! حقيقة هي كانت توافق على كل شخص تخبرها والدتها عنه خشية الوقوع في الحرام بالتفكير بمن ليس حلًّا لها ولكن جميعهم ينبهرون بجمالها الخارجي في البداية منذ أن ترفع النقاب عن وجهها ثم بعدما يتحدثون معها يفرون رافضين لتلك التي تفجرت هرمونات النكد بداخلها فجعلتها ليست سوى أشلّاء أنثى، هي تتذكر المرة الوحيدة التي وافق أحدهم عليها مفتتنًا بجمالها ولكن لم يمض أسبوعان بعد الخطبة وفرَّ هو الآخر ولا تدري أفرَّ من ضوابط الخطبة التي كانت تفرضها على علاقتهما أم أن هروبه هذا كان للأسباب التي انتهجها سابقيه!!
فاقت من شرودها على صوت شقيقتها الصغرى ذات التاسعة عشر من عمرها وهي تتشاجر مع خاطبها على أحد الأمور التافهة كما يحدث دومًا فنهضت لتلحق بباقي عائلتها وتضيع وقتها برفقتهم حتى تضيع السماء بظلمات الليل.
_______________
بعقل بات على حافة الجنون؛ طاف يجوب في ممر المشفى الطويل وخصلات شعره تكاد تفرّ هاربة من رأسه من فرط جذبه لها، لا يقوى على تحمل كل هذا دفعة واحدة، يشعر بأنه مختطفًا بحلم مريع وسيستيقظ ليرى كل شيء على طبيعته كما كان، هل من عاقل يصدق ما تعرض له في دقيقة واحدة؟! ولكن ما هذا الحلم الطويل الذي جعل زوجته على فراش الموت، بل وتخر معترفة له بخيانتها وعدم انتساب طفلتهما الأولى له قبل أن تفارق الحياة بعدما أخذت حبوب أدت لوفاتها، لم يرحمه ذاك الحلم ويجعله يستفيق مكتفيًا بهذا، بل وبكل تجبر جعله يقف أمام إحدى غرف المشفى ينتظر نتيجة التحاليل التي قد أجراها لكلتا ابنتيه ليتيقن من انتسابهما إليه، حتمًا هو بكابوس مرعب، إن كان ما يتعرض له حقيقة فما له لا يشعر بألم من خصلاته التي يكاد ينتزعها بين يديه؟!
برقت عينيه ناظرًا إلى الحائط الأبيض أمامه فهرول تجاهه يدفع رأسه به عدة مرات بعنف، ارتفعت ضحكاته السعيدة بعدما لم يتمكن الألم منه ولكن ما هذا الشيء الأحمر الذي يرى كفيه غارفان به؟ وهؤلاء الممرضات اللاتي تجذبنه وتحاولن إيقافه لما يشعر بوجودهن على أرض الواقع لا بداخل أحد كوابيسه الجاحدة؟! وتلك الهالة السوداء التي غشت على عينيه تنبأ بأنه أوشك على فقدان وعيه، كيف راودته وهو بداخل حلمه؟
بعد دقائق لم تطُل رمش بعينيه على أصوات متداخلة في بعضها ورائحة يبغضها كثيرًا، تلك الرائحة التي تتسم بها المستشفيات الطبية وكأنَّ جميعهن فُرض عليهن عطرٌ موحد برائحة المرض، لوهلة اختلجت السعادة قلبه وهو يدرك بأنه كان غافيًا وحتمية كون ما حدث له مجرد كابوس، ولكن ما رائحة المرض هذه؟!
أراض أن يطمئن ويعلم ما يحدث له فهمس يسأل يخفوت بلغة إيطالية
- نتيجة التحاليل كيف كانت؟
صُعق على صوت غليظ لإحدى الفتيات تضيف بلهجة باردة
- الفتاة الثانية متطابقة أما الأولى فمن المحال أن تُنسب إليك.
بدون إرادة منه رفع ذراعه الأيسر يلكم به الفراش عدة مرات، الآن تيقن من كون ما يعانيه حقيقة، ما حدث لزوجته وما أخبرته به لم يكن عبثًا، "ديما" ملاكه البريء لم تكن سوى شيطانًا عبث بعقله أربع سنوات وها هو الآن بعدما ولى زمن الانتقام يدرك حقيقتها، أتلك التي هرب من زواجه بابنة عمه لكي يحظى بها في النهاية؟ أهذه من اعتبرها عوضًا وأسكن صيحات ضميره بنقاء قلبها؟
نهض من الفراش بعدما جذب الأسلاك المعلقه من يده ونزعها بعنف ثم توجه خارجًا من المشفى عائدًا إلى بيته غير عابئًا بزوجته التي ترك جثتها بين أحضان الأغراب... فمن ألفت الأغراب حيَّةً دون حياء لن يصعب على جثتها أن تُهجر بأحضانهم بعد موتها!!
______________
ابتسامة جميلة ملأت شدقيها وهي ترى زوجات أعمامها تجلسن أمام صناديق رمادية كبيرة من العنب الأصفر وتعبئنه بأكياس تنوعت ألوانها بين اللونين الأصفر والأبيض الشفاف، انتبهت إلى زوجة عمها التي لفظت اسمها بابتسامة بعدما ارتشفت من كوب الشاي الذي شارف على الانتهاء ثم وضعته بجوارها وأردفت تحدثها بحنان
- تعالي يا دنيا اقعدي عبي معايا عارفة إنك بتستني اليوم دا ييجي.
بحماس انتقلت تجيب دعوتها لتساعدها في ربط الأكياس بعد تعبئتها ثم تناولها للصغار ليوزعونها على جيران الحي، فهذا طقس يفعلونه سنويًا عندما ينضج العنب فوق أشجاره ويبيعه أعمامها للتجار ثم يصطفون بضع صناديق يختصون بها الأقارب والجيران وبعض من الفقراء
- دنيا إما تتجوز لو اتجوزت في آخر الدنيا هنلاقيها جاية لنا في يوم العنب عشان توزع معانا
ابتسمت على مقولة زوجة عمها الأصغر" لبنى" وسرعان ما انتقلت بنظراتها إلى زوجة عمها الأكبر وهي تهتف معترضة
- ومين قالك إني هسيب بنتي تتجوز في آخر الدنيا دا أنا أعمل مصيبة فيها
تلقائيًا احتضنت دنيا ذراعها الممدود بجوارها ثم صاحت بمرح
- وأنا بردوا أقدر أبعد عنك يا فوفة يا قمر أنتِ
ارتفعت ضحكات الأخرى على مزحتها فشردت دنيا بامتنان في ضحكتها، أحيانا ما كانت تشعر بافتقادها لوالدتها ولكن الحق يقال، زوجات أعمامها لم يتركن هذا الشعور يتمكن منها فزوجة عمها الأصغر لا تفرق في المعاملة بينها وبين بناتها الثلاث، وهذه الأخيرة" عفاف" زوجة عمها الأكبر ووالدة أستاذها المعقد تعتبرها ابنتها التي لم تنجبها، فدائمًا ما كانت تصطحب دنيا بشقتها وعزَّز هذا علاقة دنيا الأخوية بعبدالرحمن حين كانت لا تفارقه في صغرها، ولكن بعد هذا الفراق الذي حدث بينهما احتضنتها والدته وحاولت أن تعوضها عن ابنها ولكن أهناك من يستطيع أن يمليء فراغ قلبها الذي كان أحدثه عبدالرحمن؟!
فاقت من شرودها على حمحمة رجولية تبعها تحية الإسلام، من الوهلة الأولى علمت أنها لم تكن إلا له فارتدت قناع الجَد الذي تتشبث به في حضرته وتنزعه باختناق حين ذهابه
استمعت إلى نبرته الهادئة التي تكاد تقسم أن ابتسامته تعانقها وهو يسأل باندهاش
- أنتوا لسة بتوزعوا؟ مش العنب دا هنا من الصبح؟
- على ما دنيا تخلص دروس عشان تكون موجودة، أنتَ عايزها تقتلنا ولا إيه يا عم؟
شعرت بالاضطراب من ذكر زوجة عمها لشيء يخصها أمامه ولكنها تنهدت براحة وهي تستمع إليه يقول مودعًا
- طيب أنا هطلع أنام شوية قبل المغرب ما يأذن، محتاجين أي مساعدة قبل ما أطلع؟
لم تكد تنعم بالراحة من ذهابه حتى وصل إليها صوت والدها الغاضب يهتف بإسمها من أعلى، رفعت برأسها تنظر إلى السماء باختناق لعلمها جيدًا ما يريدها أن تفعل، وزعت نظراتها بين زوجتي أعمامها اللتان طالعنتاها بشفقة ثم نهضت تدفع الأكياس الفارغة عن قدميها لتذهب إلى مصيرها دون أن تبالي بذاك الذي تخشبت قدماه بغضب، يدعو الله أن يلهمه الصبر حتى تصبح تحت حمايته.
بهدوء وقفت أمام والدها، تعلم جيدًا ما سيخبرها به ولكن أتتجاهله وتتيح له الفرصة ليبدأ حفلة الضرب مبكرًا؟
استمعت إليه يصيح معنفًا بنبرته التي لا تشعر بضميرها يؤرقها وهي تعترف بأنها باتت تمقتها
- أنا مش قلت لك ألف مرة يوم الخميس متنزليش تحت وتقعدي هنا؟
تنهدت بقوة قبل أن تجيبه بهدوء
- أنا ظبطت الشقة قبل ما أنزل، وعارفة إن صحاب حضرتك مش هييجوا الا الساعة تمانية.
- بردوا تفضلي هنا في أوضتك فاهمة ولا لأ؟
- حاضر يا بابا
شعر بضيق من خضوعها هذا، فدفعها من ذراعها الأيسر صائحًا بغلظة
- روحي اجري من وشي
لم تمر ساعات حتى واستمعت إلى أصوات عذابها الأسبوعي تقترب، ها هو قد حضر والدها برفقة أصدقائه ووجب عليها تقديم الضيافة لهم ثم تلبية ندائهم بكل مرة يريدونها، اتجهت إلى مطبخ البيت سريعًا قبل أن يبدأوا بحفل اليوم ثم حملت الطبق الأبيض الذي يحمل العديد من أنواع التسالي؛ من الترمس و بذور اللب بجميع أنواعه، وضعته سريعًا على الطاولة أمامهم ثم عادت إلى المطبخ ثانية وحملت الطبق المصفوف عليه بعض الفواكه المقطعة
عادت إلى غرفتها بعدما وضعت أمامهم كل ما ينادونها لأجل إحضاره، فحتى تلك الآلة الكهربائية التي تغلى بها الماء لتجهيز الشاي ملئتها ووضعتها أمامهم ووضعت مستلزماتها نصب أعينهم، دعت سرًا بألا ينادونها وأحضرت أحد كتبها بعدما أغلقت الباب من الداخل وبدأت في استذكار دروسها، ولكن كيف لها أن تهنأ بالمذاكرة وهي تستمع إلى أصواتهم التي ارتفعت بعدما تمكنت المواد المخدرة من عقولهم؟ وبالنهاية حدث ما كانت تخشاه، صوت والدها ارتفع باسمها فرفعت رأسها تدعو بقنوط وأحكمت وضع حجابها ثم جرجت تسأله عما يريد.
أشار والدها إلى أحد أصدقائه الذي يطالعها بنظراته الحقيرة تلك، فأشار الرجل إلى طبق أمامه قد امتلأ بقشور التسالي التي تناولها كي ترمي القشور وتعيد الطبق فارغًا له، توترت قليلًا قبل أن تقترب من الطبق القريب له ثم اقتربت بخطوات مضطربة وها هو حدث ما كانت تخشى أن يحدث ككل مرة وبدأ الرجل بملامسة بدنها أمام والدها متصنعًا عدم القصد.
حملت الطبق سريعًا فأشار إلى آخر من كوب به آثار الشاي، فحاولت حمله ولكن قبل أن ترفع يدها بالطبق وجدته يقبض على يدها ويطالعها بتحذير من أن تعترض، حاولت نزع يدها وهي تنظر بارتعاب إلى والدها الذي كان في عالم آخر ولكن صديقه تشبث بيدها أكثر فلم تجد سوى أن أسقطت الطبق الذي في يدها الأخرى على يده بقوة فنهض الرجل صارخًا وهو ينظر إلى والدها بنظرات أخبرته بأنه يشكوه من فعلة ابنته.
وبالطبع نصف والدها صديقه ونهض يسبها بأبشع الألفاظ بينما قدماه ويداه تتعاركان أيهما سيتمكن أولًا من تحطيم عظامها.
حاولت الهرولة إلى غرفتها وهو مازال يفرض رجولته المنعدمة عليها إلى أن تركها أخيرًا بعدما وصل إلى غرفتها وسقطت هي على الأرض مشتتة بين الصراخ واحتضان بدنها لحمايته. ارتفعت شهقاتها وهي تنهض بعجز مستندة بجذعها على الحائط حتى استطاعت بصعوبة رفع ذراعها إلى مفتاح الباب وأغلقته برهبة... ما أسوأ من أن يجردك سندك من عباءة الستر بينما أنت تتصارع مع القوة كي تأتيك رغم ضعفك وتخفي ما يمكن إخفاؤه.
دقائق بل ساعاتٍ قد مررن وانصرفوا أخيرًا بقرآن الفجر فاستطاعت الخروج متيقنة من أن والدها ارتمى على فراشه كالقتيل ثم توضأت بضعف من آلام بدنها وبقيت تقيم الليل حتى جاءت ساعة الفجر وأدته ثم لجأت إلى فراشها علّ النوم يوافيها.
التقطت هاتفها كعادتها بهذه الساعة من كل أسبوع ثم فتحت تطبيق الواتساب على مجموعتها التي قد أقامتها لها وحدها وكتبت رسالة لصديقها الذي اختلقه عقلها
"صديقي، يامن كان الألم مهد سبيلنا الذي التقينا في ظلامه، بدون مقدمات أكتب لك ودموعي تسبقني شكوة لك مني على نفاذ صبري، أردت إخبارك بأنني لم أعد أحتمل، صدقًا نفذت جميع منافذ طاقتي، أتعلم؟ اليوم كانت تفصلني عن الانتحار خطوة واحدة، فقط خطوة وكانت روحي ستهاجر إلى حيث تكن أمي، ولكن أنوار الإيمان أشرقت بقلبي عند اللحظة الأخيرة وجعلتني أتراجع خوفًا من لهيب جهنَّم، أتدري؟ فضولي ينهش بعقلي؟ ماذا كان أبي بفاعل لو كنت قد فعلتها؟ أترى ضميره سيبقى متواريًا تحت الثرى أم أنه سيتغلب على نثراته ويخرُّ نادمًا عائدًا لله من أجلي؟ ولو أنني أرجِّح الأولى ولكن لا تعبأ، أعلم أني أثقلت عليك حينما استندت بآلامى على كتفيك ولكن ليس لي صديق أصمّ سواك، والآن حان موعد موتتي الصغرى، إلى اللقاء في وجع آخر"
ضغطت على زرّ الإرسال ثم ألقت الهاتف جوارها غير مدركة بأن الأسماء ربما تتشابه لدينا فنرسل إلى غير من أردنا محاورته، وتتسبب غفلتنا في أمور ربما تكون المنجية أو يخالفنا القدر فتكون بداية للجحيم!!
#سلسلة_عبق_الحلال_الجزء_الأول
#سمية_رشاد